سورة يوسف - تفسير التفسير الوسيط

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (يوسف)


        


{وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (69) فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ (70) قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ماذا تَفْقِدُونَ (71) قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72) قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ (73) قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ (74) قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76)} [يوسف: 12/ 69- 76].
هذا ما حدث في الرحلة الثانية لأولاد يعقوب من فلسطين إلى مصر لجلب الطعام، فقد ضمّ يوسف عليه السّلام أخاه بنيامين واختلى به، وأطلعه على شأنه، وعرفه أنه أخوه، وقال له: لا تبتئس أي لا تأسف ولا تحزن على ما صنعوا بي، وأمره ألا يطلع إخوته على ما أسرّ به إليه، وتواطأ معه أن يبقيه عنده معزّزا مكرّما.
فلما جهّزهم يوسف بجهازهم، أي لما أعدّ لهم الطعام، وحمّل لهم أبعرتهم طعاما، أمر بعض فتيانه (غلمانه أو خدمه) أن يضع السّقاية (الصّواع أو مكيال الطعام من فضة أو ذهب) في رحل أخيه بنيامين، دون علم أحد.
ثم أذّن مؤذّن، أي نادى مناد حينما عزموا على الخروج: أيتها العير، أي يا أصحاب العير، إنكم قوم سارقون، فقفوا، فبهتوا وذهلوا. ثم التفتوا للمنادي، وقالوا: أي شيء تفقدونه؟ فأجابوهم: نفقد صواع الملك الذي يكيل به، ولمن أتى به حمل بعير من القمح، وأنا به زعيم، أي كفيل ضامن. مما يدلّ على مشروعية الجعالة أو الوعد بالجائزة.
قال إخوة يوسف بعد اتّهامهم بالسرقة: والله لقد خبرتمونا في المرة الأولى، وعلمتم علم اليقين أننا ما جئنا لنفسد في أرضكم بالسرقة أو غيرها من التّعدي على حقوق الناس، ولم نكن يوما ما سارقين، فليست سجايانا على هذه الصفة.
فقال فتيان يوسف: فما جزاء السارق إن كان فيكم، إن كنتم كاذبين في نفي التّهمة عنكم؟ فأجابوا: جزاؤه في شرعنا أخذ من وجد في رحله، ومثل هذا الجزاء نجزي الظالمين للناس بسرقة أموالهم في شريعتنا أن يسترقّوا، أي أن يتملّك السّارق كما تملك هو الشّيء المسروق. وهي شريعة إبراهيم ويعقوب عليهما السّلام، وهذا مراد يوسف. وإتماما لتنفيذ الخطة، بدأ بتفتيش أوعيتهم قبل وعاء أخيه للتورية وحتى لا يتّهم، ثم استخرج السّقاية من وعاء أخيه بنيامين، فأخذه منهم بمقتضى اعترافهم، وإلزاما لهم بمقتضى شريعتهم.
ومثل ذلك الكيد، أي التدبير الخفي، كدنا ليوسف، أي دبّرنا له في الخفاء، وأوحينا إليه أن يفعل لأخذ أخيه، وهذا من الكيد المشروع، لما فيه من المحبة والمصلحة المطلوبة، وهي حيلة مشروعة، يترتب عليها خير ومصلحة في المستقبل، دون إضرار أحد. ولولا هذا التدبير ما كان يتمكّن يوسف عليه السّلام من أخذ أخيه في نظام أو قانون ملك مصر، الذي لا يبيح استرقاق السارق، وكان يوسف يعلم بشريعة يعقوب، فما كان ليأخذ أخاه في نظام الملك في حال من الأحوال إلا في حال مشيئة الله، فإنه فعل ذلك بإذن الله ووحيه، مما يدلّ على أن تلك الحيلة مشروعة مأذون بها من الله العلي الحكيم.
وفوق كل عالم من هو أعلم منه، والمعنى: أن البشر في العلم درجات، فكل عالم لابد من وجود من هو أعلم منه، فإما من البشر، وإما الله عزّ وجلّ. قال الحسن البصري: ليس عالم إلا فوقه عالم حتى ينتهي إلى الله عزّ وجلّ. فإذا كان إخوة يوسف علماء، فإن يوسف كان أعلم منهم.
الحوار الحادّ بين يوسف وإخوته، وبينهم وبين أبيهم:
تفجّرت الأزمة الخانقة بين أولاد يعقوب في مصر، وبينهم وبين أبيهم في فلسطين، ووقعوا في كمين أو فخ شائك، وظهرت الطبائع على حقيقتها، بالرغم من كون الأولاد أبرياء من السرقة، والملك يعرف ذلك. لكن الحادث أغاظهم، وبدأت الاتّهامات الباطلة ومخاوف اللقاء مع الأب، وما يتعرّض له من ألم وأسى جديد حين عودتهم من دون بنيامين. فماذا فعلوا في ساحة الاتّهام؟ قال الله تعالى واصفا وقائع الحوار وصدمة يعقوب وشكواه إلى الله وصبره.


{قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ (77) قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78) قالَ مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلاَّ مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ (79) فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (80) ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلاَّ بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ (81) وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَإِنَّا لَصادِقُونَ (82) قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83) وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84) قالُوا تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ (85) قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (86) يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ (87)} [يوسف: 12/ 77- 87].
عبّر إخوة يوسف عن طبعهم ونظرتهم السّيئة نحو يوسف، فاتّهموه بالسّرقة وهو صغير، وأن الأخوين سارقان، فقالوا: إن يسرق بنيامين الصواع، فقد سرق أخوه يوسف من قبل، فهما في العادة والطبع سواء. وقصة سرقة يوسف في الصغر: أن عمته ربته، فلما شبّ أراد يعقوب أخذه منها، فولعت به، وأشفقت من فراقه، فأخذت منطقة إسحاق المتوارثة عندهم، فنطّقته بها من تحت ثيابه، ثم صاحت وقالت: إني قد فقدت المنطقة، ويوسف قد خرج بها، ففتّش فوجدت عنده، فاسترقّته- حسبما كان في شرعهم- وبقي عندها حتى ماتت، فصار عند أبيه.
فأسر يوسف الحزازة التي حدثت في نفسه من قولهم، ولم يظهر ما في نفسه من مؤاخذتهم بمقالتهم، بل صفح عنهم، وقال لهم في نفسه دون إعلان: أنتم شرّ مكانا ومنزلة ممن تتهمونه بالسّرقة لأنكم سرقتم أخاكم من أبيكم، وطرحتموه في البئر، لإهلاكه والتخلص منه. والله أعلم بما تذكرون وتصفون.
ثم استشفعوا لدى يوسف قائلين: يا أيها العزيز، إن له أبا شيخا كبيرا، هرما، يحب هذا الولد حبّا شديدا، فخذ أحدنا بدله، إنا نراك من المحسنين لنا في عطائنا وضيافتنا، بل وفي جميع أفعالك معنا ومع غيرنا.
قال: نعوذ بالله ونلجأ إليه أن نأخذ غير من وجدنا الصواع عنده، فإنا إن فعلنا ذلك كنا من جملة الظالمين، لأن ذلك أخذ بريء بمتهم. والمراد أن الله أمرني بما فعلت، واحتبست بنيامين لمصلحة في ذلك.
فلما يئس إخوة يوسف من إطلاق سراح أخيهم بنيامين الذي التزموا وعاهدوا أباهم أن يردوه إليه، اعتزلوا الناس يناجي بعضهم بعضا، فقال كبيرهم شمعون رأيا وتدبيرا وعلما، وإن كان روبيل أسنّهم: ألم تعاهدوا أباكم بردّ بنيامين، وكنتم سابقا قد فرطتم بيوسف، فلن أغادر أرض مصر أبدا، حتى يأذن لي أبي، أو يحكم الله لي بأن يمكنني من أخذ أخي بنيامين، والله خير الحاكمين بالحق والعدل، ارجعوا إلى أبيكم، وقولوا له: يا أبانا لقد سرق ابنك صواع الملك، فاسترقّه عزيز مصر، وما شهدنا عليه بالسرقة إلا بما علمناه وشاهدناه، ولم نعلم بالغيب أنه سيسرق حين أعطيناك الميثاق بردّه. واسأل يا أبانا أهل القرية التي كنا فيها وهي مصر، واسأل أصحاب العير الذين كانوا يأتون بالميرة (الطعام) معنا، ونحن صادقون فيما أخبرناك به.
قال يعقوب: بل زيّنت لكم أنفسكم أمرا آخر أردتموه، وكيدا جديدا فعلتموه، فأصبر صبرا جميلا: وهو الذي لا جزع ولا شكاية فيه لأحد غير الله، لعل الله أن يأتيني بأولادي الثلاثة جميعا، إن الله عليم بحالي، حكيم في فعله وقضائه وقدره.
وأعرض بوجهه عن أولاده وجعل يتفجع ويتأسّف، وأصيبت عيناه بغشاوة بيضاء حجبت الرؤية بسبب الحزن الشديد، ولكنه كظم غيظه، وحبس همه في نفسه وصدره، فقال أولاده له: والله لا تزال تذكر يوسف، حتى تقع في مرض مشرف على الهلاك، أو تكون من الهالكين الميتين. قال: لا أشكو بثّي أي ما انطوت عليه نفسي، وحزني إلا إلى الله وحده، وأعلم من الله ما لا تعلمون، أي أرجو منه كل خير وفضل. يا أولادي، اذهبوا إلى مصر، وتعرّفوا أخبار يوسف وأخيه بنيامين، ولا تيأسوا من رحمة الله وفرجه، إنه لا ييأس من رحمة الله إلا القوم الكافرون الجاحدون قدرة الله وحكمته ورحمته.
لقاء التّعارف الفريد:
لقد نجحت خطة يوسف عليه السّلام في استدراج مجيء إخوته وأسرته مرة بعد مرة، فهو بتعليم الله له وإرشاده، يسير على خطة محكمة، ومنهج متقن، وإخوته لجهلهم وتفريطهم وتآمرهم السابق على يوسف، لم يدركوا شيئا من هذه الخطة إلا في مرة ثالثة قدموا بها من فلسطين إلى مصر، وبعد أن رقّ قلب يوسف لاستعطافهم واسترحامهم، وحدثت المفاجأة العجيبة حيث عرّفهم يوسف بنفسه، وتم اجتماع الإخوة الاثني عشر في بيت يوسف وسلطانه، فاعترفوا بالذنب السابق، وقابلهم يوسف النّبي بالعفو والصفح عنهم، وتجدد الحبّ الأخوي، وتهيأ الجو لاستقبال الوالد يعقوب عليه السّلام. قال الله تعالى واصفا هذا اللقاء الأخوي والتعارف الفريد في التاريخ:


{فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88) قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ (89) قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ (91) قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92) اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93)} [يوسف: 12/ 88- 93].
أمر يعقوب عليه السلام أن يذهب أولاده إلى أرض مصر التي جاؤوا منها، وتركوا أخويهم: بنيامين وروبيل، وأن يستقصوا أخبار يوسف وأخيه، فساروا من أرض الشام ووصلوها، فلما دخلوا على يوسف عليه السّلام أرادوا اختباره وإثارة عواطفه بذكر سوء حالهم وتضرّعهم له، وكان أبوهم يرجح أن هذا العزيز في مصر هو يوسف، فقالوا له: أيها العزيز العادل الرحيم، قد مسّنا وأهلنا الضّرّ، أي الجوع والمسغبة التي كانوا بسبيلها، ووضع أخيهم الذي أهمّ أباهم وغمّ جميعهم، وجئنا ببضاعة مزجاة، أي قطعة من المال ناقصة غير تامة، يتسامح في أخذها، وهي قليلة لا تروج إلا بالدفع وطول العرض وحسنه. فإن الدراهم المدفوعة إذا كانت نازلة القدر تحتاج أن يعتذر معها ويشفع لها، فهي مزجاة، فأتم لنا الكيل كما كنت تفعل، فقد عودتنا الجميل، وتصدّق علينا بالزائد، إن الله يجزي المتصدقين، ويكافئهم على أعمالهم. وكانت الصدقة بالفرق بين الدراهم الجياد وهذه المزجاة. وقالوا هذا تجوّزا واستعطافا منهم في البيع.
فقال يوسف عليه السّلام لما أخبروه بما مسّهم وأهلهم الضّرّ، واستعطفوه، فرقّ قلبه ورحمهم، قال لهم مستفهما عن استقباح فعلهم السابق بيوسف: هل علمتم قبح ما فعلتم بيوسف وأخيه بنيامين من التفريق بينهما في الصّغر، وألقيتم يوسف في البئر وعرضتموه للهلاك، وما عاملتموه به من معاملة خشنة قاسية، حال كونكم جاهلين قبح ما فعلتم، من عقوق الوالدين، وقطيعة الرحم والقرابة، وذلك جهل المعصية، أو جهل الشباب وقلّة الحنكة، وكأنه ببشره وتبسّمه لقّنهم الجواب، وقرّبهم من الظّن القوي أنه يوسف.
فخاطبوه مستفهمين استفهام تقرير وتثبّت ومعرفة: {أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ} فقد عرفوه بعلامات كانت فيه. فقال على الفور: أنا يوسف المظلوم العاجز الذي نصرني الله، وحفظني، وصيّرني إلى ما ترون، وهذا أخي بنيامين الذي فرّقتم بيني وبينه، فكان مظلوما أيضا كما كنت، ثم صار منعما عليه من قبل الله تعالى، كما ترون. قد أنعم الله علينا بالاجتماع، بعد الفرقة وبعد طول المدة، وأعزّنا في الدنيا والآخرة، إنه من يتق الله في ترك المعصية، ويصبر على المحن التي يتعرّض لها كالرّمي في البئر والسجن، فإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا في الدنيا والآخرة. وهذه شهادة من الله عزّ وجلّ بأن يوسف من المتقين الصابرين المحسنين.
أجابوه إعلانا للحق واعترافا له بالفضل: والله لقد فضّلك الله علينا، وآثرك بالعلم والحلم والخلق، والسلطان والسعة، والنّبوة والرّسالة، وإن كنا مخطئين مذنبين في حقّك، فقال يوسف بعد هذا الاعتذار والتوبة، معلنا الصفح والعفو عنهم: لا لوم ولا تعيير ولا توبيخ أو تأنيب لأحد منكم فيما صنعتم، يغفر الله لكم ذنوبكم وظلمكم، وهو أرحم الراحمين لمن تاب إليه وأناب إلى طاعته. وهذا مثل عال في العفو الجميل والصفح الكريم، فعل نبينا عليه الصّلاة والسّلام مثله مع أهل مكة بعد فتحها، مستشهدا بقول يوسف نفسه.
ثم جاءت معجزة القميص، قال يوسف لإخوته: اذهبوا بقميصي هذا، فألقوه على وجه أبي، يعد بصره إليه بعد أن عمي بسبب شدة الحزن، وأتوني بجميع أهليكم من الرجال والنّساء والأولاد، وكانوا سبعين رجلا وامرأة وولدا. وكان هذا كله بوحي وإعلام من الله تبارك وتعالى. ويروى أن هذا القميص كان لإبراهيم عليه السّلام، حين كساه الله إياه بعد خروجه من النار.
معجزة القميص:
يختلف أفق النّبوة غير المعتاد عن الأحوال المعروفة المعتادة للناس، فإن في النّبوة أعمالا خارقة للعادة، تسمى معجزات، وكانت معجزة قميص يوسف من أبهر المعجزات النّبوية في تاريخ الرّسل، وكان الخبر العجيب من يعقوب عليه السّلام أنه يشمّ ريح يوسف ابنه المفقود من زمان طويل. وتحقّقت نبوءة يوسف وأبيه يعقوب، وتمت الفرحة الغامرة باكتشاف وجود يوسف عليه السّلام، وأنه ما زال حيّا، وأنه ذو مكانة وسلطان، وعمت البهجة والسرور أرض مصر وفلسطين معا، وكان البشير المبشر بهذا هو الابن الأكبر ليعقوب، وهو يهوذا الذي اعتصم بمصر، والذي كان قد جاء بقميص الدم. وصف القرآن المجيد هذه المعجزة في قوله سبحانه:

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8